lundi, février 26, 2007

حـزن كأنـه المـوت


وسام سعادة
أي غرور أن تكون أنت الباقي على قيد الحياة؟
وأي جشع ان تكون أنت وحدك الحق وأنت وحدك القابض والقائم والعابث بأوجاع الدنيا؟
وأي سخف أن تكون أنت وحدك الراثي، والمرثية لا تتوجه بها لأحد غيرك؟
وأي عقم أن تسعد بعد كل ذلك بمرثيتك وتزنها بالعاقلة أو بالبيان؟
مع ذلك يحاصرك الغرور والجشع والسخف والعقم من كل جانب الآن. الصدمة يزول مخدّرها بسرعة، وإذ ببطاقات مريبة تتسلّل الى بدنك وتجعله خارقاً للطبيعة.
بدءاً من اليوم صرت حرّاً؛ وحشاَ لا يشبه أحدا من ولد آدم؛ وحشا لا تلاحقه العين التي لاحقت قايين؛ وحشا لا يقول له الرّب إني لن أتخلى عنك لكني لن أتركك، على نحو ما قالها ليشوع بن نون. بدءاً من اليوم صرت حراً تماماً. ما عاد ثمة آخر سواي. ما عاد ثمة آخر أكتب اليه. ما عاد ثمة آخر يعلّمني الكتابة. ما عاد ثمة آخر يستوجب القراءة. ما عاد ثمة آخر يقرأني.
بدءاً من اليوم صارت اللعبة في غاية السهولة. أكتب لنفسي. أقرأ ما أكتبه لنفسي. أساجل نفسي من مَعين نفسي. أكتفي بالآخرين مناسبة أو ذريعة ليس أكثر.
بدءاً من اليوم سهلت اللعبة كثيراً. لكنها هزلت. ما عادت مسلّية ولا نافعة. صارت ضرباً من ضروب الحرام. حرية بكل ما في الكلمة من تفاهة. حرية وحده الله ينجينا منها. وحده الحزن ينتشلك من جحيم هكذا حرية.
وحده الحزن يحرس الذاكرة، يطعمها ويؤويها، يفتحها على المقبل من أيام.
وحده الحزن يعقّم الصلوات، ويلتقط من طبقاتك الصوتية تلك القهقهة المتعذرة حالياً، وتلك النبرة التي ليس مثلها نبرة، وذلك الحياء، أو تلك المسؤولية.
وحده الحزن يؤجل فريضة البكاء الى غد، ودوافع التفكير الى بعد غد.
وحده الحزن ينبهك الى أن الساعة ليست مناسبة لكل هذا الهذيان. وحده الحزن يعيق اللوعة والكلمات. يفتش مواكب الكلمات. يطرحها أرضاً، يأمرها بأن تختن بعضها البعض، ثم تمضي الى حال سبيلها.
فالحزن على جوزف سماحة، ليس كالحزن على سواه.
إنه كالإله النصفي بالنسبة الى هذه الصحافة اللبنانية، ذاك الذي رحل. ليس فقط لأنه أفضل ما يُقرأ فيها. بل أيضاً لأنه أفضل من يَقرأ فيها، وبالدرجة الأولى أفضل من يقرؤها هي، يوماً بيوم، ومنذ عقود.
والمشكلة مع جوزف سماحة ليست أنه أبكر في الترجل ومغادرتنا. المشكلة أنه أبكر في صياغة وصيته في كتابه الشيق، «سلام عابر: نحو حل عربي للمسألة اليهودية». فكان عليه أن يزاول فعل الكتابة طيلة ثلاثة عشر عاماً من بعد وضعه لهذه الوصية.
ولعلّ الوفاء لجوزف الآن يمرّ بالضرورة بإعادة قراءة هذه الوصية، ومناقشتها. فمن خلالها يمكن أن نمسك بعقال كل مقالات جوزف سماحة منذ السبعينيات الى اليوم، كما السلسلة، رغم كل التعرجات والنقلات والمنعطفات.
ان جوزف سماحة الصحافي قد مات، وثمة فرصة أكيدة الآن لاستقبال المفكّر جوزف سماحة، كأهم المواصلين لما أطلقه ياسين الحافظ من مراجعة نقدية حضارية في الصميم. وربما كان علينا المساجلة من موقع جوزف سماحة المفكر ضد جوزف سماحة الصحافي، أو بالعكس. لا همّ، لكن من هو المؤهل لهذا العمل؟ ومع من يكون النقاش بعد الآن؟
على من تقرأ المزامير؟ رحل آخر الإنس. والجن ليسوا يشفعون لنا بعد.


جريدة السفير